من المعلوم أن القرآن الحكيم يتكلم عن الحكمة وهو مشتمل علي آيات الحكمة والقرآن هو كل شيء مقروء .
والقرآن الحكيم هو جزء من كتاب اكبر هو الكتاب الحكيم وهو الكتاب الحاوي على عموم الحكمة فالكتاب هو الحاوي لكل شيء وليس الشيء المقروء. وسنذكر الأدلة التي تثبت وجود القرآن الحكيم والكتاب الحكيم :
اولاً : قال تعالى في سورة لقمان {ألم تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ }لقمان2. وهذه السورة تشير إلى الكتاب الحكيم وفيها تبرز آيات الحكمة . وقد سميت هذه السورة باسم لقمان ، ولقمان هو الحكيم . قال تعالى في نفس السورة {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ }لقمان12. في هذه الآية تظهر فلسفة الحكمة التي تتلخص في الشكر لله . ورأس الحكمة كما قال رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) : ( رأس الحكمة مخافة الله ) . روى ألقمي عن الصادق (عليه السلام)أنه سئل عن لقمان وحكمته التي ذكرها الله عز وجل فقال : (( أما والله ما أوتي لقمان الحكمة بحسب ولا مال ولا أهل ولا بسط في جسم ولا جمال ولكنه كان رجلاً قوياً في أمر الله متورعاً في الله ساكناً مستكيناً عميق النظر طويل الفكر حديد النظر مستغن بالعبر لم ينم نهاراً قط ولم يره أحد من الناس على بول ولا غائط ولا اغتسال لشدة تستره وعموق نظره وتحفظه في أمره ولم يضحك من شيء قط مخافة الإثم في دينه ولم يغضب قط ولم يمازح انساناً قط ولم يفرح بشيء بما اوتيه من الدنيا إن أتاه من أمر الدنيا ولا حزن منها على شيء قط وقد نكح من النساء وولد له الأولاد الكثيرة وقد أكثرهم إفراطا فما بكى على موت احد منهم ولم يمر برجلين يختصمان أو يقتتلان إلا أصلح بينهما ولم يمض عنهما حتى تحابا ولم يسمع قولاً من احد استحسنه إلا سأله عن تفسيره وعمن أخذه فكان يكثر مجالسه الفقهاء والحكام وكان يغشى القضاة والملوك والسلاطين فيرثي للقضاة مما ابتلوا به ويرحم الملوك والسلاطين لعزتهم وطمأنينتهم في ذلك ويعتبر ويتعلم ما يغلب به نفسه ويجاهد به هواه ويحترز به من الشيطان وكان يداوي قلبه بالتفكر ويداوي نفسه بالعبر وكان لا يصغي إلا فيما ينفعه ولا ينظر إلا فيما يعنيه فبذلك أوتي الحكمة ومنح العصمة وان الله تبارك وتعالى أمر طوائف من الملائكة حين انتصف النهار وهدأت العيون بالقائلة فنادوا لقمان حيث يسمع ولا يراهم فقالوا يا لقمان هل لك أن يجعلك الله خليفة في الأرض تحكم بين الناس فقال لقمان : إن أمرني ربي بذلك فالسمع والطاعة لأنه إن فعل بي ذلك أعانني عليه وعلمني وعصمني وان هو خيرني قبلت العافية . فقالت الملائكة : يا لقمان لم قلت ذلك قال لأن الحكم بين الناس بأشد المنازل من الدين وأكثر فتناً وبلاءً ما يخذل ولا يعان ويغشاه الظلم من كل مكان وصاحبه منه بين أمرين ان أصاب فيه الحق فبالحري إن يسلم وان اخطأ أخطاً طريق الجنة ومن يكن في الدنيا ذليلاً ضعيفاً كان أهون عليه في المعاد من أن يكون فيه حكماً سرياً شريفاً ومن اختار الدنيا على الآخرة يخسرهما كلتاهما تزول هذه ولا يدرك تلك ، قال : فعجبت الملائكة من حكمته وأستحسن الرحمن منطقه فلما أمسى وأخذ مضجعه من الليل أنزل الله عليه الحكمة فغشاه بها من قرنه الى قدمه وهو نائم وغطاه بالحكمة غطاءً فأستيقظ وهو احكم الناس في زمانه وخرج على الناس ينطق بالحكمة ويبثها فيهم . قال : فلما أوتي الحكم بالخلافة ولم يقبلها أمر الله عز وجل الملائكة فنادت داود (ع) بالخلافة فقبلها ولم يشترط فيها بشرط لقمان فأعطاه الله عز وجل الخلافة في الأرض وابتلي فيها مرة وكل ذلك يهوي في الخطاً يقبله الله تعالى ويغفر له وكان لقمان يكثر زيارة داود (ع) ويعظه بمواعظه وحكمته وفضل علمه وكان داود (ع) يقول له طوبى لك يا لقمان أوتيت الحكمة وصرفت عنك البلية وأعطي داود الخلافة وابتلي بالحكم والفتنة )) تفسير الصافي ح4ص142.
ثم تستمر السورة في بيان حكمة لقمان وتتضح هذه الحكمة في نصائح لقمان لابنه قال تعالى {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } وقوله {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ } {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ }لقمان11-19.
ولقد لخص لقمان الحكمة وجمع أطرافها في مواعظه التي وعظ بها ابنه . قال صاحب الميزان في تفسير هذه السورة ما هذا نصه : (( في الآيات إشارة إلى إيتاء لقمان الحكمة ونبذة من حكمه ومواعظه لابنه ولم يذكر القرآن إلا في هذه السورة ويناسب المورد من حيث مقابلة قصته الممتلئة حكمة ومواعظه لما قص من حديث من كان يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزواً )) الميزان المجلد 8 ص268 .
ثانياً : وورد ذكر الكتاب الحكيم في سورة يونس قال تعالى {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ }يونس1. وهذه السورة تحوي من أطراف الحكمة ما لا يمكن انكاره ويذكر الله سبحانه فيها من الايات الآفاقية والانفسية ومن الترغيب والترهيب الشيء الكثير ثم يذكر حال بعض القرون السالفة مثل قوم موسى (عليه السلام) وقوم يونس (عليه السلام) . ومن اشارات الحكمة قوله تعالى في هذه السورة {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ }يونس57.
ثالثاً : قال تعالى { يس وَالقرآن الْحَكِيمِ } يس1 . في هذه السورة المباركة يذكر الله تعالى القرآن الحكيم ومعنى هذا ان القرآن الحكيم في سورة يس . وهذه السورة تمثل قلب القرآن ، ذكر في مجمع البيان وثواب الإعمال عن الصادق ( عليه السلام) : (( إن لكل شيء قلباً وان قلب القرآن يس )) تفسير الصافي ج4 ص263 .
وعن رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم ) قوله : (( إن لكل شيء قلب وقلب القرآن يس وقلب الشهور شهر رمضان وقلب الليالي ليلة القدر )) .
رابعاً : ورد عن رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) انه قال : (( من اخلص لله أربعين صباحاً جرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه )) . إذا فالقلب هو موضع الحكمة ومنه تجري ينابيع الحكمة . وقد عرفنا إن سورة يس هي قلب القرآن اذاً فينابيع الحكمة في القرآن موجودة في سورة يس ، أي بمعنى أخر إن سورة يس فيها قرآن حكيم . وهذا ما يعنيه قوله تعالى { يس وَالقرآن الْحَكِيمِ }.
من ذلك كله يتبين لنا إن (( القرآن الحكيم )) هو كتاب خاص أما الكتاب الحكيم فهو الكتاب الذي يجمع عموم الحكمة. والحمد لله اولاً واخراً
نقلا من الموسوعه القرائنيه للسيد ابو عبد الله الحسين القحطاني